فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلاَ تُطِعِ الكافرين} فيما يريدونك عليه وهو تهييج له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
{وجاهدهم بِهِ} أي بالقرآن كما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة {جِهَادًا كَبيرًا} فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كمًا وكيفًا، وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه عليه الصلاة والسلام نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل: بعثناك نذيرًا لجميع القرى وفضلناك وعظمناك ولم نبعث في كل قرية نذيرًا فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، وفي الكشف لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه: {أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] وذنب بدلائل القدرة والنعمة والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد وأنهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالأنعام وأضل وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى، قيل: {وَلَوْ شِئْنَا} [الفرقان: 51] على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم، وقيل: فلا تطعهم.
ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثًا على الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ للعالمين نَذِيرًا} [الفرقان: 1] والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ} [الفرقان: 43]. إلى آخر الآيات، وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم.
وقيل: هي متعلقة بما عندها على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم، كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو الأنفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع الخ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه.
هذا وجوز أن يكون ضمير {بِهِ} عائدًا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسًا ترك طاعتهم كأنه قيل: وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملائمة والمداراة كما في قوله تعالى: {يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلًا وليس فيه شائمة الجهاد فضلًا عن الجهاد الكبير، وجوز أيضًا أن يكون لما دل عليه قوله عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} [الفرقان: 51] من كونه صلى الله عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرًا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة والسلام: وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادًا كبيرًا جامعًا لكل مجاهدة.
وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية، وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف.
وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف، ومع هذا لا يخفى ما فيه، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة وأوفرهم حظًا المجاهدون بالقرآ منهم. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي: ساترًا كاللباس.
{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} أي: راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي: زمان انتشار لطلب المعاش.
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} أي: ناشرات للسحاب وفي قراءة بشرًا بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين، أي: مبشرات: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر. وهي استعارة بديعة. استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت. كقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]، وجعلها بين يديه تتمة لها. لأن البشير يتقدم المبشر به. ويجوز أن تكون تمثيلية. وبشرًا من تتمة الاستعارة، داخل في جملتها. ومن قرأ نشرًا كان تجريدًا لها. لأن النشر يناسب السحاب: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي: مطهرًا، لقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء.
قال القاضي: وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه، وتتميم للمنة فيما بعده. فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم بذلك أولى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: بإنبات النبات: {وَنُسْقِيَهُ} أي: ذلك الماء: {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} قال الكرخي: خص الأنعام بالذكر، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر. ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض. فإنها سبب لحياتها وتعيشها، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أي: كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر: {بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي: ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي: كفران النعمة وجحودها: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} أي: نبيًا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة. لكن لم نشأ ذلك، فلم نفعله. بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1)، إجلالًا لك وتعظيمًا، وتفضيلًا لك على سائر الرسل.
وقال المهايمي: أي: لكن لم نشأ. لأنه يقتضي تفرق الأمم، وتكثر الاختلافات. فجعلنا الواحد نذيرًا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم. والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي: فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر. ولا تطعهم فيما يريدونك عليه. وأراد بهذا النهي، تهييجه وتهييج المؤمنين، وتحريكهم. أي: إثارة غيرته وغيرتهم. وإلا فإطاعته لهم غير متصورة.
قال أبو السعود: كأنه نهي له، عليه الصلاة والسلام، عن المداراة معهم، والتلطف معهم. أي: لأن في ذلك إضعافًا للحق وتغشية عليه. وطول أمد في سريانه. ولذا قال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن وما نزل إليك من الحق: {جِهَادًا كَبِيرًا} أي: لا يخالطه فتور، بأن تلزمهم بالحجج والآيات، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات، لتتزلزل عقائدهم، وتسمج في أعينهم عوائدهم. وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين، ودعوتهم إلى الحق بقوة، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة. فإن الحق يتضح بالأدلة. كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظلّ والضَّحاء إلى الاعتبار بأحوال اللّيل والنهار ظاهرة، فالليل يشبه الظِلّ في أنه ظلمة تعقب نور الشمس.
ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جُزَأي الجملة وهو قصر إفراد، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار.
أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يُقرون به؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أُبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة.
و{لكم} متعلق ب {جعل} أي من جملة ما خُلق له الليل أنه يكون لباسًا لكم.
وهذا لا يقتضي أن الليل خُلق لذلك فقط لأن الليل عَوْد الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصُل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَة لمن أراد أن يذكّر} [الفرقان: 62]. إلخ.
وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الإلتفات.
و{لباسًا} مشبه به على طريقة التشبيه البليغ، أي ساترًا لكم يسْتر بعضَكم عن بعض.
وفي هذا الستر مِنَن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها.
وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم، بخلاف قوله: {وخلقناكم أزواجًا وجعلنا نومكم سباتًا وجعلنا الليل لباسًا} في سورة النبأ [8 10]، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد.
وقد جمعت الآية استدلالًا وامتنانًا فهي دليل على عظم قدرة الخالق، وهي أيضًا تذكير بنعمة، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمّةً لما يدل عليه حصول الظلمة من دِقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس، ولِما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون.
والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع.
وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى.
وفسر الزمخشري السبات بالموت على طريقة التشبيه البليغ ناظرًا في ذلك إلى مقابلته بقوله: {وجعل النهار نشورًا}.
وإعادة فعل {جعل} في قوله: {وجعل النهار نشورًا} دون أن يعاد في قوله: {والنوم سباتًا} مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعلٌ مخالف لجَعْل الليل لباسًا.
وذلك أنه أخبر عنه بقوله: {نشورًا}، والنشور: بعث الأموات، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه، بتقريبه بالهبوب في النهار.
وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح «الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور».
والنشور: الحياة بعد الموت، وتقدم قريبًا عند قوله تعالى: {بل كانوا لا يرجون نشورًا} [الفرقان: 40].
وهو هنا يحتمل معنيين أن يكون مرادًا به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا} فيكون الإخبار به عن النهار حقيقيًا، والمنّة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم.
ويحتمل أن يكون مرادًا به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ.
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحِبة والمطر.
ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرّياح من النشور بذكر وصفها بأنها نُشرٌ على قراءة الجمهور، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم.
ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالًا لادعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله: {وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا} [الفرقان: 47]. إلخ.
وأطلق على تكوين الرياح فعل {أرسل} الذي هو حقيقة في بعث شيء وتوجيهه، لأن حركة الرياح تشبه السير.
وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق.